قصة ورواية

غبريال ، قصة قصيرة

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
محمد فيض خالد

تَراهُ حِين يَنتزع خاتمه النّحاسي اللاَمع من جيبِ الصّديري ، يَنفخُ فيِه بقوٍة، ريَثما يغرقه من رغوةِ فمه، يغرسه في وجِه الَختَّامة ،ثم يَدسّه في الورقِة ، يَفركها في نَشوةٍ طَويلة ،يَتلاعب حَاجباه قليلا ، يُصرِّحُ بعدها في جرأٍة وهو يَفركُ كَفّه كَمتسولٍ عتيد :” الحلاوة يا حلاوة “، يَحكّ طَرف ذقنه المغبرة في استسلامٍ بعدما امسك بقروشِه يعدّها على مَهلٍ مُتلذّذا ،تغيمُ عينيه في ارتياحٍ وهو يُقلِّبُ بصره في الوجوهِ كَذئبٍ عَجوز “ غبريال ” أو ” أبو رؤوف ، دَلاَّل الجمعية الزراعية ، وقَيّاس الناحية الذي لا تُرد كلمته ،ولختمه الغلبة في كثيٍر من النِّزاعات التي تَنشب بيَن الفلاحين ، تَراه حِين يَرمي ” قصبته” على الأرضِ يَتفصَّد جَبينه عَرقا، يجري خَلفها بخفٍة ومهارة كشاب في العشرين، قبل أن يلقي بيانه في اقتضابٍ محيّر، يجلس القرفصاء ، يُخرِج علبته الصَّفيح ، ينتزعُ ورقة البَفرة يحشوها بالتَّبغِ، يُمرِّر طَرف لسانهِ قبلَ أن يبرمها ثم يقدح عود الثقاب ،يُحلِّقِ ثَوانٍ بينَ سُحبِ الدُّخان الكثيفة المندفعة من فمهِ ومِنخريه في فوضى ،يغُمغمُ مَزهوا يَقبضُ يده ويبسطها في رِضا وسَكينة ،يُمرِّر طَرفَ منديله المحلاوي حولَ عُنقهِ الطَّويل ، يُصفِّقُ على كفيهِ في هِمةٍ مُتحَفزا ، ليقول :” يا عاطي الحقوق يا رب” ، حُكمه كالسَّيفِ مُسلط على الرِّقابِ، حتى لو كان العمدة وشيخ الخفر، هو الوحيد القادر على اسكات فوهات البنادق ،وإلجام العِصي المُشرعة في اهتياجٍ ورعونة ،وسَوق الخصمين سوقا نحو الصُّلح ، فغبريال يقولُ الحق ، ولا يُجامل ،وقصبته كفة ميزان لا تَخل.
هو من بَقيّ من تَركِِة البيه صَاحب الِعزبة بعد أن رَحلَ، لا يُعرف له أهلٌ ،لا ولد ولا زوجة ، لكّنه صديق الكُلّ ،تراه وهو يُمصمص شفتيه السُّود ساعة يَسحب رشفة الشاي ،قائلا في ونس :” معلمي ليشع أفندي برسوم مساح البندر ، هو من تنبأ بأني سأخلفه في الزمام ” ، بيد أنَّه وعلى قَدرِ نباهتِه في الحساب ، ومعرفة حدود الزِّمام وفواصل أحواضه، بل ومساحة كلّ غيطٍ بالشِّبرِ والذراع، أُعطي كَفا شحيحا ، وبُخلا مقيتا ،لا يتوقف عن شكايِة زمانه وعن طلب المعونة ،حتَّى وإن كانت في كفِّ دقيق أو حفنة سكر أو حتى بصلة يابسة ،مشت أيام ” غبريال” كأحسن ما يكون ، له فيها الحظوة والمكانة ، وقروشا يكنزها من هنا وهناك ،لكن فاته أن عجلة الحياة لا تهدأ ،وأن قصبته واشباره ستضعف يوما ما ،فالحياة تمر مرور الساقية ، وتلك سنة الله في الَخلقِ.
صَحا صَاحبنا َيوما على ما رَوّع خَاطره ،هَبطَ على القَريةِ رِجال المِساحة ،وبأيديهم أجهزتهم الحديثة ، شَيءٌ من أفَعالِِ الأبَالسِة ، يأتي على حُقولِ الزِّمامِ في يَومٍ واحد ، تَقلَّصَ وجود ” غبريال” وأشباهه من إرثِ الماضي، ليجد نفسه بعد أشهرٍ وقد أفَل نجمه، وتَلاشى ذِكره، يُطوِّفُ في مُكَابرةٍ على الحُقولِ، لكن الأرض لم تعد كالأرضِ ، تستسلم سَريعا للحُزن يجد فيه السلوى ، لم يعد يُضاحِك يُعابث كما كان، أصبح وله روحان تنازعانه ، يُخرِجُ جريده أمام البيت يبرده ويصقله ،يُسائله ويُضاحِكه حَتّى أصبح فعله موضع فكاهة، ودَاعي تندر ،عَاشَ في الآلامِ حِِينا وقَبل أن يَنقضي عَامه ، تَحنَّنت عليهِ أقداره ، فأرادت أن تكتب نهاية مأساته رأفةً لحاله ،مَاتَ ” غبريال ” في صَمتٍ ، وماتت لموتِه ذِكراه الحُلوة ، وطُويت مَع سِيرتهِ صفحة من تاريخِ الزِّمام ، وكَأنَّها انتُزعت مِن تَاريخِ الزَّمان
…….

زر الذهاب إلى الأعلى