مقالات

إني أقرأ وأفكر

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

 

طارق دياب
كان عندنا موضوع في القراءة في الصف السادس الابتدائي بعنوان (صقر قريش) يتناول قصة عبد الرحمن الداخل وكانت بداية الموضوع عندما دخلت عليه أخته في وقت عصيب كان فيه جنود العباسيين على الأبواب يبحثون عن ما تبقى من الأمراء الأمويين ليتخلصوا من سلالة بني أمية فرأته جالساً يقرأ رسالة فسألته في دهشة: ماذا تفعل يا عبدالرحمن؟ فأجابها: إني أقرأ وأفكر !!!! (إني أقرأ وأفكر) جملة ثبتت في ذهني منذ أن قرأتها وكانت من أسباب تلازم القراءة مع التفكير لديّ حتى أصبح الفعلان فعلاً واحداً لا أستغنى عن أحدهما وصارت القراءة عندي نوعاً من التحليل العميق والتفكير الدقيق لاستخلاص ما بين السطور …. وكأنني أقيم حواراً افتراضياً مع الكاتب وأناقشه في أفكاره ولا أتركه حتى يبوح لي بمكنون أسراره!!!!! (إني أقرأ وأفكر) كانت مفتاح النجاة لعبد الرحمن بن معاوية من ورطته كما سنعرف في نهاية المقال ولربما تكون مخرجاً للأزمة التي نمر بها كعرب وجعلتنا نتخلف عن ركب التقدم الذي لحقت به أمم كانت أكثر غرقاً منا في وحل الجهل والتخلف!!!!
(إني أقرأ وأفكر) لو قالها عبدالرحمن لأعلام الفكر والثقافة في عالمنا العربي!!! (فنكبتنا في نخبتنا) هذا هو سر تخلفنا …. الذي يكمن في أمثال هؤلاء المثقفين الذين يقرأون بلا تفكير ويظنون القراءة فعلاً عاطفياً فينظرون للنص المقروء بعين واحدة إما بعين الرضا وإما بعين السخط ويضعون ضمادة على العين الأخرى مع أنهم من المفترض أنهم يتقدمون الصفوف ويحملون مشاعل النور للعبور بنا إلى سكة السلامة سكة التقدم والنهضة الحقيقية (مثلهم مثل الشيخ حسني في فيلم الكيت كات عندما كان يعبر بالشيخ الأعمى الشارع!!!!) وهكذا أصبح التعصب والتحيز والهوى من سمات حياتنا الثقافية وتاهت الأجيال وسط خضم صراع عبثي بين محافظين يدفنون روح التجديد والإبداع في ثنايا سطور كتب التراث وبين مجددين منبهرين بأضواء الغرب اللامعة يريدون اقتلاع جذور هويتنا الثقافية. والطامة الكبرى تجدها في أغلب رسائل الماجستير والدكتوراه التي يهتم أصحابها وهم من المفترض أن يكونوا صفوة الصفوة أضحوا يهتمون بتكديس رسائلهم باستشهادات من المراجع العربية والأجنبية بلا نقد أوتحليل لها دون إضافة أي بصمة شخصية أو رأي أو فكر يثري به الدراسة. وهكذا عرف عن الأمة العربية بأنها أمة لا تقرأ وإذا قرأت لا تفكر فقط تقتبس وتستورد الأفكار من الأمم الأخرى!!!
(إني أقرأ وأفكر ….وأبدع!!!) فبالتأكيد الإبداع نتاج للقراءة والتفكير . والإبداع لا يقتصر على الكتابة والتأليف ولكن أن تكون لك وجهة نظر فيما يقوله الكاتب، وأن (تغربل) أراءه وتميز الغث من السمين منها،وأن تكون لديك الرؤية العميقة للأمور بمقدار مهارة (زرقاء اليمامة) في رؤية ما لا يستطيع الإنسان العادي رؤيته نتيجة لما اكتسبته من حصيلة القراءة الواعية. قرأت مقالاً للفيلسوف (زكي نجيب محمود) عن الفرق بين النمل والنحل؛ فالنمل يكتفي بتخزين ما يجمعه ليسد به حاجته من الطعام ولا يفيد به غيره بينما النحل يحول رحيق الزهور إلى عسل شهي غذاء ودواء لمن يتناوله!!!! وكذلك هو نفس الفرق بين القارئ (الحافظ مش فاهم) والقارئ المبدع الذي لا يتوانى عن التفكير فيما يقرأه.
(إني أقرأ وأفكر …. وأستمتع!!!) هل التفكير يفسد متعة القراءة وخاصة النص الأدبي؟!!! أنا أرى أنه لا يوجد ما يمنع من الإعجاب بأسلوب الكاتب والاختلاف مع آرائه وتوجهاته؛ ولا أرى داعياً لتقبل كل ما يسطره الكاتب (بكل ما تحمله من أفكار … بسلطاته بباباعنوجه ….!!) لمجرد أن توجهاته تتفق مع توجهاتي!!! فأنا معجب بأسلوب (عادل حمودة) في الكتابة ورشاقة عباراته ذات الألوان الصاخبة والأضواء المتراقصة ولكني أختلف معه في الآراء والتوجهات وخاصة السياسية منها!!!! وأنا أستمتع بحكايات ومغامرات (أنيس منصور) بأسلوبه المشوق السهل الممتع وما لاقاه في رحلاته وأسفاره ولكن أنا على يقين من أن معظم ما يقصه أكاذيب ومعلومات لا أساس لها من الصحة وهذا لا ينتقص من متعتي في شيء!!!!
(إني أقرأ وأفكر …… وأفند!!!) القراءة أولاً ثم يأتي التفكير والتحليل والتفنيد ….. قديماً قالوا لا تصدق كل ما تراه كذلك لا تصدق كل ما تقرأه وليس هذا مدعاة للتشكيك في كل ما تقرأه، وليس أيضاً هذا مدعاة لأن يتصدى الجاهلون للنيل من قدر علماء اجتهدوا في توصيل أفكارهم لنا ولكن لكي تحاور هؤلاء العلماء وتفند آراءهم لا بد أن تكون على نفس القدر من العلم والمعرفة أي أن تكون قارئاً جيداً تقرأ لهذا الرأي ونقيضه حتى يتراكم في عقلك مقدار من المعرفة يكفي لمجاراة ومحاورة هؤلاء العلماء وليكن هدفك إجلاء الحقيقة منزهاً عن أي هوى أو غرض عندئذ تستطيع أن تحلل وتفند بلا رهبة أو خوف مثلك مثل (أرسطو) عندما سألوه: كيف تعارض معلمك (أفلاطون)؟!!! فأجابهم: أحب (أفلاطون) ولكن أحب الحق أكثر من (أفلاطون)!!!!
(إني أقرأ وأفكر ….. وأتذوق) ليت واضعي مناهج اللغة العربية يكون من ضمن أهدافهم تنمية مهارة القراءة والتفكير الناقد لدى الطلاب !!! فمنذ دراستي للنصوص الأدبية وأنا ألاحظ الميل لتعبير الذي صاغه الشاعر أو الكاتب في سؤال : أيهما أجمل؟ وأسأل نفسي: لماذا يكون دائماً تعبير الشاعر أو الكاتب هو الأجمل والأكثر دقة؟!!! لماذا لا ندرب الطلاب على التذوق الفني ونقد النص وهل يعجبهم صياغة الكاتب لهذا المعنى أم لا ونتقبل جميع الآراء؟!!!! حتى في منهج البلاغة لمرحلة الثانوية العامة لا بد من الأخذ بوجهة نظر مؤلف الكتاب في نقده للشعر والشعراء ومع أنني كنت في قرارة نفسي أختلف مع رأي المؤلف ولكني في الامتحان يجب عليّ الأخذ برأيه فهذه هي الإجابة النموذجية !!!
(إني أقرأ وأفكر) كانت طوق النجاة لعبدالرحمن بن معاوية؛ فعندما دخلت عليه أخته كان يقرأ رسالة جاءته من الأندلس عن اضطراب الأمور فيها وتنازع إماراتها فكان في تلك اللحظة الرهيبة يفكر ويخطط لإيجاد وسيلة للهرب من بين براثن العباسيين والوصول للأندلس. وأسهمت رؤيته الواضحة للأمور نتيجة للقراءة الواعية والتحليل الدقيق لمجريات الأحداث في إنجاح خطة هروبه وعدم انخداعه بوعود العباسيين الزائفة بمنحه الأمان إذا سلم لهم نفسه مثلما خدعوا غيره من الأمراء الأمويين !!!!! واستطاع الوصول للأندلس وتوحيد إماراتها المتنازعة فصارت الأندلس في عهده وعهد خلفائه كالمنارة في الوقت الذي كانت تتخبط فيه أوروبا في ظلمات العصور الوسطى وكل ذلك تحقق بفضل إنسان كان يقرأ ويفكر!!!!

زر الذهاب إلى الأعلى