قصة ورواية

تداعيات من الزمن المنكسر ... قصة قصيرة ....

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
بقلم / على حزين
الثكنات الهندسية الشكل تبدو رائعة والسيارة تسبح في بحر الشارع الطويل تطوي الحقول الخضراء على جانبيها والبحر أمامها يقترب والشمس العذراء تتستر خلف الغُلل البيضاء وتطل من بين الأغصان,……
وكان الهواء النقي يضرب وجهي بعنف, يعبث بمعطفي الرمادي, ويخبط شعري, والشوارع المتسعة هادئة جداً تلهو فيها الشمس الباردة, والفساتين الملونة ترقص علي مناشير الغسيل, وستائر الشرفات تعلو وتهبط فتصفق في الهواء الطلق, وأغصان الأشجار الوارفة الظلال يوشوش بعضها بعضاً, وصبية صغار يلعبون بالكرة, وأخرون يتحاورون بالدراجات ……
وكنت أتخيلها وهي تجلس بجواري تشاركني المقعد الوثير, والطريق الطويل فجاء صوتها يتهادى ينبعث من أعماق الذات, ليكسر صلَف الصمت القاتل.. ورنين ضحكتها الحلوة يدغدغ مشاعري المرهفة , وتعليقاتها الساخرة من كل شيء, حتى من نفسها, حين كانت تريح يدها البيضاء في يدي, وهي تشبك الأصابع المرتجفة في أصابعي , وتضغط , فيقشعر جسدي وأنتشي, ويهرب الدم من عروقي,……………
” كانت زهرة برية جميلة, وكان في عينيها العسليتين رعد ٌ, وبرقٌ وصواعق تدمر كل قلاعي, وحصوني المنيعة, وتحطم جدران الذاكرة وتذيب كل الفواصل التي بيننا والحدود المحصنة , فأصيرُ طفلاً بين يديها لا يعجبها تصرفاته الصبيانية.. آآهِ … لَكَم أنا مشتاق إليك يا” حنان ” وأكثر مما مضى أحتاجك .. تلفينني بين ذراعيكِ الجميلة , وتمسحي بيدكِ النحيلة رأسي, لتنفضينَ من فوقها كل سنين الاغتراب, محتاج إلى دفء صوتكِ لكي يغسلني حتى النخاع .. محتاج لضحكتكِ الحلوة تزلزلني, وشعركِ الغجري المتمرد وهو ينام فوق طرقات وجهي الشاحب, هذه يدي خاوية فمدي يدكِ, شبكِ الأصابع المرتجفة, واضغطي , فأنا الآن مشُتاق وبي لوعة البائس التعيس, فبرغم الجو الماطر, الساحر, إلا أني أفتقدكِ , وأحن إليكِ بطول المسافات التي تفصل بيننا, أناديكِ, وأشتهيك ..”………
تنحنحت التي بجواري, نظرتُ إليها فابتسمتْ, وكأنها تريد أن تأخذني منكِ تسألني عن الزمن المتوقف في يدي, فمنذُ فارقتكِ كل شيء قد توقف عندي..!!
(( لا تخافي, صغيرتي , واهدئي, فالنهد المترجرج , الصابئ, المتمرد .. والفتنة النائمة في عينيها السوداويين, والجسد الأبيض اللدن الطري, وعطرها الأنثوي الفواح , وبسمتها الخبيثة كل ذلك مجرد تأثير وقتي وعابر سرعان ما يتبخر عندما نفترق, وأمور عفوية, عارضة, فلتهدأ روحكِ الثائرة بداخلي..)) …………….
تحسستُ حقيبتي حتى أتأكد أنى لم أنسى شيئاً, ارتخيتُ على المقعد, أتابع صوت المغنى المنبعث من المذياع الشاكي لكل الناس أوجاعه وعيناي كانت تلتهم اللافتات العريضة التي سُمرت على جانبي الطريق, وبعض المباني المتناثرة هنا وهناك في عشوائية رائعة, وسطر الأشجار الذي لا ينتهي, ورائحة البحر التي لا تقاوم, كل ذلك ذكرني, بتلك الليلة, البعيدة, الكئيبة .. المحفورة في الذاكرة .. حين اقترضت عشرون جنيهاً.. من جارتي العجوز .. وتركت لها البلد وهربت, نعم هربت, رميتُ نفسي في آخر قطار متجهاً إلى القاهرة … وكان الرحيل , والاغتراب, حين رفضتْ أن أكون فارس أحلامها المنتظر …. لن أنساها أبداً تلك الليلة الحزينة من ليالي الشتاء القارص, كم جاهدت معها, وحاولتُ كثيراً أن أكسر صخرة عنادها, أن أثنيها عن قرارها , أحميها من نفسها, وبرغم أني أَثبتُّ لها, أن فلسفتها للحياة خاطئة, وخبرتها ما زالت قاصرة, إلا إنها فضلت الانتحار في أحضان غريبة, كلها حفنة أيام, وستصبح مدام فلان ..” هه .. هه ” طظ ” ……
(( صوتها في تلك الليلة, كانت كرابيج من نار, ما انفكت تنهش لحمي, وتطاردني في كل مكان, تصفع مشاعري المرهفة, بلا رحمة, حتى ضحكتها صارت ككلاب تنهش عقلي, وكلاليب تمزق قلبي أشلاءً من بين ضلوعي, انهرتُ ساعتها, وكدت أسقط أمامها, لولا أني تماسكت, ووددت أن أبصق عليها, أن أصفعها بكل قوة, أدهسها تحت حذائي الرخيص حتى أُسويها بالأرض, ولكني تحاملتْ, وتحملتُ للنهاية, ولعنت ضعفي وذلي أمامها, وفضَّلتُ الهروب منها, ومن الشوارع التي كانت تضمنا عند المساء, ورحلتُ بعيداً عنها, بعدما حرقتُ كل رسائلها, والصور, وارتديتُ آخر عربة بالقطار, تكورت فوق حقيبتي, أتلمس ضوء المصابيح الخافتة, المصطفة, وهي تحارب أشباح الليل وتهتك أجساد المدن الناعسة, تحت عباءة الليل البهيم, وظَلَ القطار يخبط, ويخبط, يوقظ صوته الليل والمدى البعيد, يُعلن عن نفسه يناوش القرى وينادي المدن البعيدة, والباعة الجائلون يلجون من بين الكتل البشرية المصفوفة في ردهة القطار بأصوات مرتفعة , كل منهم ينادي سلعته بطريقته الخاصة, ثم يسب ويلعن الدنيا, والعيشة, والحياة المرة, والناس ينظرون إليهم ولا يتكلمون ولا يشترون , وأصوات الركاب تداخلت كدوى النحل, وكنتُ وحيداً , شريداً, محطماً, مهزوماً , مهتماً بما للغد الآتي, لا أعبأ بالعيون التي كانت تناوشني, وتتحسسني من حين لآخر خلسة, حتى هدأ الليل , ونامت العيون, ومُلأت الجفون عن شواردها, وذهبت النجوم, وسكن الليل, وانقطع بكاء الطفل الذي كان يلقم صدر أمه )) …….
تنبهت لصوت التي بجواري, وهي تطلب من سائق التاكسي تهدئة السرعة .. في تلك اللحظة تفرستها جيداً, تحققت من ملامحها كاملة .. كانت تشبهك يا ” حنان ” إلى حدٍ كبير نفس النظرة, نفس الابتسامة الساحرة, التسريحة, الفستان, الشفاه المستديرة المحددة, المقددة, حتى العطر الذي تفضلينه يفوح من كل الجسد الأبيض.. مصادفة عجيبة أدهشتني وأعجبت لها كثيراً .. أدارت وجهها صوب البحر, ووضعت ساقاً علي ساقٍ, فضاق عليَّ المقعد, قاومت, ارتبكت خفت, فتركت لها المقعد, وقمت من جنبها, فاستدارت نحوي ترنو إليّ وهي تخرج من عينيها جيوشاً من علامات التعجب, والاستفسار, والاندهاش, ثم وضعت يدها على فمها في دهشةٍ, وأخذت نفساً عميقاً, وفضلت الصمت, والنظر إلى موج البحر الهادر, والحقول الخضراء الجميلة, والشمس وهي تبتسم في كبد السماء ……
(( في أول مرة هبطتْ قدمي سلم القطار, لأجد نفسي في بلد غريبة , بعيدة, خفت, وحدثتني نفسي بالرجوع إليك يا” حنان ” لكن أمواج البشر المتلاطم ألقي بي في قلب المدينة الخرسانية, لأجد نفسي أسير تحت الشمس المحرقة, وبين العربات الفارهة, أقفز, وأجري, كي أتفاداها كالبهلوان, ورصيف يُسلمني لرصيف حتى ناوشني التعب, فارتميت فوق قطعة خضراء, في الأرض اليابسة, توسدتُ حقيبتي, أغمضتُ عيناً واحدة, والأخرى أبقيتها مفتوحة للصوص المدينة حتى لا تُقلِّبني أيديهم التي لا ترحم غربتي, أتحسس جيبي لأتأكد من هويتي, وأوراقي المهمة, التي تثبت أني غريب عن هذه المدينة ورحت أقلب في” المتواليات ” أقرأها ” أتعلم كيف يصاغ الحرف, ليغير وجه المدن البعيدة ليعطينا وجهاً نألفه, ويغير فينا وجه الرحلة, لون الأيام, يعطينا لوناً آخر للأحلام” ويجئ المساء غريباً, يشبه وجه المدينة فطوبى للغرباء أمثالي, طوبى للحزانى , والبؤساء لأن الجوع ينهش أحشاءهم, طوبى للذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. وتصرخ الكلمات بداخلي (( للثعالب أوجرةٌ , وللطيور أوكار )) حتى كلاب الأرض الضالة لها زوايا من الأرض تعرفها جيداً, وتأوي إليها حين تشتهي الموت, أما أنا فليس لي هاهنا مكان آوي إليه, لأضع رأسي المتخمة بالجراح, وآلاف الكتب الصفراء, والأسماء , والعناوين , وأحلامي الكبيرة الملقاة في الشارع عارية في الطل, غير مأسوف عليها, يدهسها أزيز المحركات, وهي تنهب الطريق, وتلعقها عيون المارة, وتلوكها الأفواه الفاغرة ……….
وكنتُ أشعر أن كل ما برأسي باطل, وقبضُ الريح, ومزيف, كوجوه نساء المدينة ..
فجأة اقتربت مني سيارة شرطة حينها أسلمتُ قدماي للريح, حتى لا توضع يداي في أساور من حديد .. حدث ذلك معي ـ في يوم ما, …..
{{ حين كنت عائداً من محاضراتي, وبينما كنت ألهث خلف القطار, أوقفتني سيارة زرقاء كهذه, ابتلعتني من قبل أن أنطق ببنت شفة, كلمة واحدة لم أقلها , ورضيت الاستكانة .. استسلمت, وجبنت فيّ الكلمات, ورضخت للأمر الواقع, شهراً كاملاً, ثلاثون ليلة متواصلة يفترسني الجوع, وبرد الشتاء, وثلاثون ليلة أُخَر, كل صباح, تشدني خيوط الشمس فوق نافذة صغيرة حتى أصبحتُ كعنكبوت يجري فوق الحائط ,أرمي عيناي في كل اتجاه, أنتظر قطارات الجنوب وهي عائدة, وأنا يعاودني حنين الخيل للصهيل, والطير للرحيل, والسفر, ويرحل فيّ الحنين , مهزوماً, مكسور الوجدان, يجفف دموع انكساراتي .. }}
فررت منهم لما خفتهم, لأني لست مثلهم, هم معهم إقامة, وأنا بلا إقامة, هم يملكون بيوتاً خراسانية في المدينة, وأنا بلا بيت, أو وطن, أو عنوان .. هم يتربصون بي , وأنا لا أملك من أمري شيئاً .. فاخترت الفرار, وفررت, كحمار وحشي, ارتديت المنعطفات, والأزقة , والحواري الضيقة حتى اختفيت ــ كفص الملح ــ في الظلام .. ومشيت مهرولاً .. اقتربت من مشارف المدينة التي فتحت لي جناحيها عند الدخول واستقبلتني كمخلص .. هكذا سولت لي نفسي .. وتهيأت .. وتوهمت , ولما احتواني ظلام المكان , ذهب الخوف عني , وتوقفت عن السير كي ألقف أنفاسي المتقطعة, وأجفف نزيف العرق, ويهدأ القلب المرتجف, الذي كاد يتوقف من الفزع, هدئت استرحت .. لترجع إليّ نفسي .. برهة قصيرة غفوت فيها, فحلمت, بامرأة بيضاء, فارعة القوام, بارعة الجمال, وساقطة في الثلاثين من عمرها تدنو مني , وهي تتكسر في مشيتها بخطوات كلها دلع , ودلال .. وبحركة لولبية .. ترمي بنفسها عليّ .. تمسح علي رأسي .. وهي تهمس في أذني .. تساومني بصوت كله نعومة , ورقة , وغنج , وعطرها الأنثوي .. يطغى على المكان .. وأنا لا أستطيع المقاومة……………
ــ بكم تبيع هذا الجسد, المتعب اللزج, المليء بالأتربة ..؟
ــ بالطعام والمبيت علي سرير وثير, وحفنة نقود
ـــ هه .. هه .. هذا كثير جداً … !
ــ إذاً فليكن بالمبيت والطعام … !!!!
ـــ وهذا أيضاً صعب ..!
ـــ إذاً فاختاري أيهما شئتِ سيدتي ….؟!!
ـــ وهذا أصعب ..!
تنهض مسرعة .. وهي توسد الخد قبلة ساخنة .. وتنصرف .. تركب عربتها الشبح .. وتنطلق بسرعة البرق .. أجري خلفها .. فتختفي فجأة في الظلام …
أستيقظ فجأة من نومي, لأجد نفسي ما زلتُ, في الظلامٍ الدامس ..على مشارف المدينة الخراسانية , البعيدة , الغريبة .. تسكعت , تصعلكت , ضحكت من نفسي .. وضربت كفاً بكف .. ثم رفعت رأسي إلى السماء, وبكيت ومشيت بخطىً ضعيفة موهنة, تحسست جيوبي الخاوية إلا من قطعتين من النقود المخرومة أخرجتهما ولوحت بهما في الهواء, بحذر شديد وضعتهما ثانية في جيبي ..عصبت بطني بيدي من شدة الجوع .. وضربت الأرض بقدمي , فتطاير حجر صغير من أمامي, رأيت فتاة جميلة على الجانب الأخر من الطريق .. تشاركني الليل, والتسكع .. وربما الاغتراب.. اقتربتُ منها …………
ــ لو سمحتِ الساعة كم …؟
استمرت في سيرها , وكأنها لا تسمعني , لكن شفتاها انفرجت عن ابتسامة تشجعتُ ثانية وواصلت حديثي معها …
ــ غريب في المدينة .. وطالب منك نزهة ….
وقفتْ ..غرستْ عيناها في وجهي .. فشعرتُ بقلبي يرفرف طرباً … برهة .. استدارت وانصرفت .. دون أن تتكلم .. اعترضتُ طريقها .. وقفت في وجهها … تشجعتُ أكثر, وأنا ابتسم في وجهها, قلت: …
ــ كنتُ عارف إن قلبك طيب ….. ؟!
قطعتْ سيرها … توقفت ثانية … التفت إلي باستغراب … حملقت باندهاش … ابتسمت … ثم فاجأتني بصفعة قوية على وجهي … وبصقت على الأرض … وانصرفت تستأنف سيرها … بينما أنا كنت واقفاً في ذهولٍ … ممسكاً موضع الألم .. وأنا أصرخ في ظهرها
ــ ” يا مفترية ” …
أتنبه لصوت أجش … يقطع تداعياتي … وينتشلني من بئرها العميق ……
ــ نازل فين يا أستاذ ….؟
تنبهت … التفت إليه .. والشمس كانت باردة .. تجنح للغروب .. والسيارة متجهة صوب البحر .. وما زال صوت المغني .. يشدو عبر المذياع .. بأخر أغنية شدى بها لحبيبته الغائبة …..
” ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان .. وتسأل موج البحر وفيروز الشطآن .. وتغوص بحاراً وبحارا.. وتصير دموعك أنهارا.. وستعلم بعد رحيل العمر.. بأنكَ كنت تطارد خيط دخان “..
ــ شارع ( 25 ) …..
ــ ما فات يا أستاذ من بدري ……..؟
ــ يعني أرجع المسافة دي كلها تاني …….؟؟
ــ أعمل لك إيه يا بيه .. ما أنت كنت نايم علي ودانك …..!!
ــ ………….؟!
وكانت السماء تكتسي عباءتها الرمادية .. وأسراب الطير تحلق في فضاء الكون المتسع .. ورائحة البحر التي لا تقاوم تدغدغ مشاعري .. وموجه الأزرق ينتظر, الجسد المُثْخَنٌ بالجراح , وانكسارات الهزائم , ليعبث به.. يغسله من وَعْثَاءه … ويلهو معه….. و…..

زر الذهاب إلى الأعلى