بقلم / على حزين
بجوار ماسح الأحذية, وبائع الليمون كان يجلس, بكرتونته, يبيع اللب, والفول السوداني,
يخرج كل يوم من بيته القاطن “بساحل طهطا” مع أول ضوء,
قبل أن تطلع الشمس تراه يتعكز في الشارع الطويل, يدب علي الأرض بخطوات ثقيلة ضعيفة, ناهز السبعين خريفاً, أو يزيد عليها قليلاً, وما تقوس ظهره وما انحنى, ثقُل سمعُه, وضعفت قوته, وشاب رأسه, إلا أنه يملك بداخله قلباً كبيراً أخضراً, ينبض بالحياة, مليئاً بحب الخير لكل الناس, متفائلاً دائماً, عطوفاً, متسامحاً, طيباً, مصلحاً بين الناس, ومتصالحاً مع نفسه,……
يكتفي بكوب الشاي الساخن ليغير ريقه حتى يشعل سيجارته, يسمي الله ويتوكل عليه..
يخرج, يتح في مشيته, ويلقي السلام على من عرف ومن لم يعرف, ويبتسم للجميع, وما أن يصل إلى الجامع الكبير بجوار السكة الحديد, يتوضأ, يصلي الصبح, ثم يفترش كرتونته الورقية يضع عليها كمية صغيرة من النبق, والفول السوداني أمامه, وبعض الأوراق التي يبتاعها من أولاد المدارس, تارة ينقض النبق, وتارة أخرى يفصص الفول ليعبئه في قراطيس صغيرة, ثم ينادي بصوته الجهوري على من يشتري حتى يستفتح منه,………
ــ النبق .. الفول السوداني .. ببريزة ..
وحين يركد السوق, يذهب إلى ‘حدى المدارس القريبة منه, ليبيع للصبية الصغار, أو يتجول في موقف العربات, يبيع لركاب” المني باص ” والسائقين الذين يحبونه, ويضحكون معه, فإذا رجع لمقره عند الجامع بجوار ماسح الأحذية وبائع الليمون اللذان يخبرانه بأن ابنه الصغير الشيخ “علي” جاء وسأل عنه, يجلس, وكل منهما منهمك ومشغول بما في يده, ماسح الأحذية يضرب بالفرشاة على الصندوق الخشبي المزين بالصور, والدبابيس اللامعة, حتى يضع الرجل الواقف على رأسه حذائه, وبائع الليمون يبيع لامرأة شمطاء, أما هو فيظل يفرز, وينقض, ويقشر, وينادي على من يشتري منه, والميدان يضج من حولهم بالمارة في حركة دائبة لا تنقطع, ولا تنتهي, وتلكسات العربات تمخر الآذان, والعظام , والأعصاب ..!
ـــ اللب .. الفول السوداني .. النبق الحلو ..
أهل البلد يعرفونه جيداً, وكثيراً ما يتندرون بحكاياته, وبطولاته, التي لا يمل, ولا يكل من ذكرها لكل من هب ودب,…
ذات مرة سمعتهم يتذكرون, واحدة من تلك البطولات, والتي مازالت تعيش في خياله, يوم كان الانجليز يحتلون البلد, ضرب عسكري إنجليزي, عندما سمعه يسب أمامه الملك, أخذه في إبطه ثم رفعه إلى أعلى, ثم أهدره في الأرض, ثم انهال عليه ضرباً باليمين حتى كاد أن يقضي عليه لولا تدخل الهجَّانة… وكنت أسمعهم وأنا سعيد بهذا, وفخور به ……
أذهب إليه, من حين لآخر, أجلس بجواره في صمت, وأدب, فأنا أحبه كثيراً جداً, وأحب أن أراه دائما كل يوم, وأحب أن أقضي له حاجاته, وألبي له ما يريد من طلبات, أجلس بجواره, أصغي السمع وهو يتحدث لي, وأنا أتفرسه من حين لأخر في صمت, وهيبة, وفي حب, أقرأ ملامحه القمحية, طويل القامة, عريض المنكبين دائماً يرتدي جلباباً بلدياً فضفاضاً بني اللون أو صافية
يتشح بشال رمادي, فوق رأسه عمامة مكورة بيضاء, وطاقية صوف, شغلتها له”أم صباح” علي يدها, تلك المرأة التي تسكن بالحجرة المتلاحمة لحجرة زوجته الثانية, أراه يستصعب, يمصمص شفتيه, وهو يقلب كفيه مترحماً على أيام زمان, ذلك الماضي الجميل, وأيامه التي ولَّت, ويتمني أن تعود ولكن هيهات, هيهات, فالدنيا قد تغيرت من حوله, والأيام قد دارت عليه وجارت فأصبح بعد أن كان تاجراً, ومعلماً كبيراً, وله سمعته في السوق, يجلس هنا يبيع اللب والفول السوداني أمام الجامع في حين صبيانه الذين كانوا يعملون تحت يديه أصبحوا معلمين كبار ……
يتنهد, يتأوه, يزفر زفرة طويلة , حامية وهو يتحدث لي بنبرات كلها حزن, وألم, وفقر مدقع, وعن تلك الأيام, وعن الدنيا, وبلائها, والزمن الصعب .. ثم يشرد بذهنه هنيهة بعيداً, فلا أدعه يطيل التفكير, أفتعل السعال, أكح, أتنحنح, أكلمه, أسأله, حتى ينتبه, لكي يستأنف الحديث معي عن الدنيا ألتي يشبهها دائماً “بالغزية” التي كان يشاهدها زمان في الموالد. ….
وكان يحكي لي قصة تلك “البوتيكات” المرصوصة في ظهر المحطة, وهو يشير إليها ببنانه, ويحكي عن أصلها يوم كانت ” دريسة ” للسكة الحديد, والبنايات الشاهقة, وموقف العربات, والميدان, وشارع المحطة الذي لم يكن فيه غير جامع “الشيخ عبد العال ” الكبير, والري القديم, والمركز, ثم يهمس لي :
ـــ زمان يا ولدي كانت الدنيا برخص التراب ..!!!
رجل أنيق بيده طفل صغير يقترب منه ليشتري نبق وفول سوداني لابنه, يناوله كيساً كبيراً, وهو يبتسم في وجه الصبي وأبيه, هكذا هو يصنع في وجه من يشتري منه, يشكره الرجل وهو يعبر الطريق المزدحم بالمشاة, والعربات, وبنات المدارس بزيهم الأزرق,……..
أعطيه سيجارة, يشعلها, يأخذ منها نفساً طويلاً, يحبسه في صدره, ثم يخرجه من أنفه, وفمه, وهو ينادي على من يشتري منه بصوته الجهوري ….
ـــ الفول السوداني .. النبق الحلو …..
ألمحه يدس يده في جيبه, فتخرج بقطع من الحلوى الجلاب, وقنديل مشوي وبعض من النقود الزهيدة, يدفعها في جيبي, وهو يبتسم لي, يدنو برأسه من أذني, ينصحني, ويوصيني أن أنتبه لدراستي, والمذاكرة, فهو لن يعيش لي قرناً, كما يقول لي دائماً, تترقرق الدموع في عينيه الذابلة, فيجففها بطرف ردائه, يحتقن صوته, يطرق هنيهة تفكير, بعدها يربت على كتفي, وهو يهز رأسه, ثم يدعو لي بطول العمر, والرزق, وأشياء أخرى كثيرة, فهو يحبني كثيراً جداً, وأنا أحبه أيضاً, على الرغم أن معه ثلاثة أولاد غيري,……..
لم يبخل علينا في يوم من الأيام, ولم يحرمنا من شيء, يلبي كل طلباتنا, وكان يرفض أن نعمل تحت يدي أحد, وكان يدللني كثيراً جداً, فأنا أصغر أولاده ….
أذكر, وأنا طفل صغير, كان يجلسني بين يديه, يقبلني بين عيني, يضحك, وهو يطلب مني أن أتلو عليه ما حفظته في الكُتَّاب من القرآن الكريم, وكان يعطيني قطعة ” بخمسة قروش” وكان يصحبني معه, وكان يشتري لي الحلوى.. أُسمي الله, بعد ما أستعيذ من الشيطان الرجيم أقرأ:” ألم نشرح لك صدرك” أسمعه يقرأ معي بصوت منخفض, خافت, فإذا أخطأت صحح لي وصوب الآيات, وهو يشدني من أذني ويمرسها, ثم يؤمِّن ويُصدِّق, ثم يضمني بين ذراعيه إلى صدره العريض ويقبلني ثانيةً وهو هاشاً باشاً في وجهي, يلتفت لأمي, يوصيها بي خيراً ويطلب منها أن تراضيني, وترضى عني, فترفض أمي ذلك, وهي تقول في غضب, ممزوج بالغبطة, والسعادة:
ـــ دلعك ده هو الـ هـ يضره ويخسِّره .. !!
فيضحك, وهو يضمني بين ذراعيه, ويقبلني قائلاً لها:
ــ خليه يدلع له يومين قبل ما أموت ….
تضرب أمي علي صدرها, بيدها, مندهشة, وتبادره بنبرات دافئة مليئة بالحب والصدق:
ــ بعد الشر عنك إن شاء الله عدوينك …
تنتظره أمي أمام الدار كل يوم حتى يعود, وتنشغل عليه إذا تأخر عن موعده, وحين تقلق عليه ترسلني أبحث عنه لنطمئن عليه, ألمحه من بعيد على أول الشارع, يتعكز على الحيطان, فأسرع في استقباله, وأحمل عنه ما جاء به,…………..
يرجع بعدما يكون قد صلى العشاء جماعة, يمشي الهوينة, يتسند جدران الشارع الطويل, وفي يده كيساً أسوداً به من فضل الله كثير.. تستقبله أمي, بابتسامتها المعهودة, المعتادة, الصافية, الحانية, الجميلة, وقبل أن يتخطى عتبة الدار .. تبادره كالمعتاد بالسؤال :
ــ تأخرت ليه..؟؟!!!!.
يجلس, يئن, يتأوه, يتألم, وهو يشتكي لها من ظهره, وقدميه, فتعيد أمي عليه سؤالها, وهي تُعِد له الطعام, يبتسم لها, وهو يجيب فضولها بصوت قوي, لم يشيخ بعد :
ــ كنت بلقط رزقي.. أين الولد .. ؟
ــ فوق بـ يذاكر .. ؟
ينادي عليَّ, أنزل مسرعاً, مهرولاً, أجلس أمامه وبين يديه, كالمعتاد, نتناول طعام العشاء, يهمس في أذني مخبراً, بأن شيخي “الشيخ أبو زيد” بـ يسأل عنك”.. وأنه مبسوط مني جداً.. ويريد أن أجتهد في ختم القران, وفي المذاكرة “……
بالأمس القريب حين ذهبت إليه ــ حين تأخر عن موعده ــ .. بحثت عنه عند الجامع الكبير… وموقف العربات… فلم أجده … فقد أصبح المكان خاوياً.. فقط احتضنت كرتونته الورقية ….. وعيوني تذرف الدمع …. وكأني به ينادي:
ـــ الفول السوداني….والنبق الحلو ……
**************************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
من مجموعتي القصصية الثالثة ” حفيف السنابل “