يضع يده على فمه, يكلمها, ترفع رأسها تجاه حقيبتها الزرقاء وهي ترد عليه, يبتلع ريقه , يضغط على نظارته, يُثبتها, يواصل كلامه, تومئ برأسها, وتبتسم, فيضع قدمه في وجه الجالس أمامه, يمد يده, يشير, يهمس في أُذنها بكلمة, فتضحك .. ينتشي, وينبسط, وينتشر الدم في وجهه أما أنا يمتقع وجهي, ويفور الدم في عروقي, مغتاظاً .. نظرت إليها, فابتسمت, وألقت ببصرها على الأرض, وشردت, هنيهة , وأناملها تضرب علي ساعة معصمها, يعود الجالس بجوارها يسُّر إليها حديثاً آخر, ترجع إليه البصر, فاتراً, فيتمكن من جلسته , يسترخى على مقعده ..
همّمّت أثب عليه, أركله, أصفعه, ألقى به من نافذة القطار, حتى تنطفئ النار التي شبت بداخلي , ويهدئ بركان الغضب الذي تفجر بداخلي واشتعل, منذ رأ يتهما معاً, يتحدثان, ويضحكان.. تمنيت لو أن الأرض تنشق فتبلعهما, أو تنزل عليهما صاعقة من السماء, أو أني لم أرهما .. نظرت إليها ثانية, فهربت, وألقت عينيها من النافذة, ولازت بالصمت ..
فتحت أجندتي السمراء .. قرأ ت .. الاسم “….” العنوان “….. تاريخ اول لقاء كان بيننا “…. ” رقم الهاتف “………..” …
” هنا رأيتها, أول مرةٍ, في نفس المكان, صدفة, والسماء كانت تشتي علينا, لن أنسي هذا اليوم ما حييت .. كانت صدفة جميلة, حين رأيتها أتغير كل شيء, واتغير في ثنية, جلست بجوارها, مرتبكاً, مرتعشاً, ولا أدري ماذا أقول, وكنت أنتفض من الخوف, ومن شدة البرد.. لكن دار بينهما حوار.. لا أدري كيف بدأ, أو كيف انتهي, فقط , أحسست حينها بشيء غريب راح يتسلل بداخلي, وشعور جميل راح يغزوني, وايقنت حينها أنها نصفي ألأخر الذي طالما بحثت عنه, فقد رأيت فيها إنسانة بمعنى الكلمة, إنسانة مختلفة تماماً, وبكل المقاييس, عن الآتي عرفتهنّ, أنا لا أنكر, في البداية شدني جمالها, الهادي, والهدوء الذي كان يملأ وجهها البلوري المشّرب بالحمرة, وأدبها الجم “,
تضحك, بصوت عالِ , انتبهتُ, وألتفتْ أحد المارة , والتفتُ, تعاود الضحك, وهي تضرب كفها بكفه .. يتألق وجهها .. يبرق .. تلمع عيناها , وشعرها الأصفر الذهبي يعبث به الهواء, ….
” أبوها رجل فاضل , وقور, كان حديثه معي دائماً, ينم عن عقلية متزنة, ورأى راجح, وكنتُ أستمع إليه , بأدب , وأنا أسترق النظرات إليها, من حينِ لآخر, حتى لا يشك في الآمر ” ..
نظرت إليها, فارتبكت, وراحت تسكن شعرها بيديها البضّ , فوق راسها, وخلف أُذنيها الجميلة , أمسكت قلمي .. تلفت عن يميني .. فتحت صفحةً بيضاء .. وكتبت فيها أقول :
” آه , لو تأتى ألان , لو تأتي في تلك اللحظة , أُستاذي الفاضل, لتريني ما تصنع فتاتك .. ؟؟!!!
حين تسمع, وتري , بأم رأسك , كتفه في كتفها, وعيناه في عينها, وهما يتهامسان, ويضحكان , ترى ماذا أنت فاعل, وقد رأيت ما رأيت .. وسمعت ما سمعت .. وهي تجلس مع رجلِ غريب , غيري , لا أعرفه , وقد التصقت , الأكتاف , والأرداف , والساق بالساق , وأنت الرجل الوقور الفاضل, الرشيد .. هه .. هه .. لقد أكلت مخي بالفضيلة , والشرف , وكدت تجعلني مجذوب مثلك, جعلت منك شيخاً , وصرت لك مريداً, تسألني , ولا أسألك, وتعترض على , ولا استطيع الرد, وأُسلم لك في كل شيء تقوله.. وأؤمن به , ولا اعترض .. وأعلم أنك كاذب , مخادع .. وعندما أراك قادماً ً, أقوم إجلالاً, وإكباراً لك , وحباً , وكرامة , وأُؤثرك بمقعدي, لتجلس عليه وتتربع .. وأنا علي رأسك , أقف , أخدمك , وأقيك الزحام , وحر الشمس المحرقة في الصيف .. وبرد الشتاء .. لكني الآن أعترف بأن ما فعلته قديماً معك .. ليس من أجلك .. بل كان من اجل فتاتك تلك المستهترة .. ال………..” .. والتي تقطع الآن كل حبال الوصل , والود , وتقعل كل ما زرعته من مسلمات جنونك في رأسي .. فسمح الآن لي أن أقول لك , بملأ فمي “طظ ” فيك .. نعم أقولها لك أنت, فقد كفرت بك , وبشرفك الذي تدعيه , وفضيلتك المزعومة .. فأن فتاتك هذه اختارت لك مريداً أخر غير, وحبيباً أخر لا أعرفه أنا ولا أنت , ربما يكُن أبر مني لك, يحافظ عهدك , ويتبعك , ولا يعصي لك أمراً , أو يسألك عن شيء, حتى تحدث له منه ذكري ..
وإن مرقت من يديك , فلا تضيق صدرك مني زرعا , ولا تحزن , واطمئن , فلن تدعك فتاتك بدون مريدين , وأتباع كُثُّر, يطرقون بابك , يطلبون رضاك , ويرجون فتاتك .. أما أنا من اليوم كفرت بك, ونفضت يدي, وطهرت , وألقيت عهودك كاملة في المرحاض , اليوم وبعد ما رأيت, وسمعت , تبرأت منك , ومنها, وبرئت , فلتقل أنت ما تشاء, ولتضحك هي لمن تشاء , وعلي من تشاء , فهذا شئنها , وشأنك ” ……….
رميت عليهما نظرة أخيرة, باردة .. وهو لم يزال يهمس لها , وهي تضحك , وتنظر إليَّ , وقد وضعت يدها على فمها, والقطار يقترب من المحطة, يهدئ من سرعته ..
أنهض .. أُنزل حقيبتي السمراء .. أتمشي في ردهة القطار .. بتؤدة .. ولا ألتفت .. أُغادرهما .. ترن في أذني ضحكة مفتعلة .. أضحك في نفسه .. أُقفز جاكت الجلد .. والقطار يدخل المحطة .. وأنا أخذ طريقي إلي الباب .. والرصيف يعج بالركاب ……